حين يصبح القانون مصدرا للخوف والقلق فإنه يفقد شرعيته ويجهض المراد منه. ذلك أننا نفهم أن القانون وسيلة غايتها تحقيق العدل، لكنه حين يكون غطاء لتكريس الظلم والعسف فإنه يصبح عبئا على المجتمع مشوبا بالفساد والبطلان. أتحدث عن قانون الجمعيات الأهلية الذى صدم الجميع حين أقر مجلس النواب مشروعه. ثم استراحوا حين تأجل إصداره شهرا بعد شهر، ثم فوجئنا بأن التأجيل كان بمثابة انحناءة مؤقتة أمام عاصفة الاحتجاج والغضب، وما إن هدأت العاصفة حتى صدر القانون وأصبح جزءا من المنظومة التشريعية المعمول بها.
رغم أن العملية ما بين الإقرار والإصدار استغرقت ستة أشهر، إلا أننا لم ننس تفصيلاته التى نسجت محاولة تأميم العمل الأهلى وإلحاقه بالسلطة، وإخضاعه لإشراف وتوجيه الأجهزة الأمنية فى نهاية المطاف. صحيح أن ذلك التوجه أصبح معلوما للكافة، لأن حملة الإخضاع والإلحاق تتم بخطى حثيثية طول الوقت. كما أن إجراءات تشديد القبضة وبسط هيمنة السلطة على مختلف أنشطة المجتمع ومؤسسات السلطة أصبحت تتم علانية تحت مسميات مختلفة. إلا أننا ظننا أن الجمعيات الأهلية التى كانت المتنفس الوحيد الذى يدافع المجتمع من خلاله عن حقوق الناس السياسية والاجتماعية سينجو من الاجتياح. على الأقل من باب تخفيف الضغط والإيهام بالتسامح وسعة الصدر، لكن الإصرار على إحكام إغلاق المجال العام كان أقوى من حسابات العقل والروية. كأنما أريد تجريد المجتمع من كل دفاعاته، لتنفرد السلطة وحدها بإدارة كل الشأن العام. إذ لم تعد مكتفية بإدارة الشأن السياسى والاقتصادى والأمنى، لكنها أيضا أرادت أن تدير الشأن الأهلى وتتحكم فى مساره.
ومن المفارقات ذات الدلالة أن الخطاب الرسمى فى مصر ما برح يندد بقرائن انهيار الدولة وانفراط عقدها، حتى جرى الحديث عن «شبه الدولة»، واتهمت بعض الأطراف والجماعات بأنها تستهدف إسقاط الدولة، فى حين أن الجهد المبذول الآن لا يخدم سوى تقوية السلطة وإضعاف الدولة. ذلك أن قوة الدولة لها مقومات متعددة سياسية واقتصادية وعسكرية، فى حين تحتل قوة مؤسسات المجتمع موقع الصدارة منها. وحين يتم العصف بتلك المؤسسات الرسمية منها أو الأهلية بتجريدها من استقلالها أو بإخضاعها لسلطان الأجهزة الأمنية، فإن ذلك يعنى إضعاف المجتمع الذى يفضى على الفور إلى إضعاف الدولة وإدخالها عمليا وتلقائيا فى طور شبه الدولة.
لا يحتاج المرء إلى تعمق فى الفقه الدستورى لكى يدرك أن الدولة الحديثة هى دولة مؤسسات بالدرجة الأولى، وإلغاء المؤسسات بمثابة إلغاء لمكونات الدولة الحديثة، وتمهيد للعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة. حيث تختزل «الدولة» فى شخص الزعيم أو فى مؤسسة واحدة.
لقد تطور فقه الاستبداد بحيث ما عاد ينكر الديمقراطية أو يرفضها، وإنما صار يرفع لواءها ويهتف عاليا لها، وفى الوقت ذاته يعمد إلى تزويرها. فما عاد يرفض المؤسسات ولا القانون، لكنه أصبح يشكل المؤسسات بما يناسب الهوى والمراد، كما أصبح يصمم الدستور ليغدو على القد والقياس ثم يطلق الأعوان ليصوغوا القوانين التى تثبت قواعد الطغيان وتزينه. وبذلك يصبح كل شىء فى البلد يدار حسب الدستور والقانون. وتشهر الحجة فى وجوه الجميع، دون أن يسمح لأحد بأن يتساءل عن «الماكينة» التى أدارت المشهد وأخرجته فى ثوبه الديمقراطى المزيف.
أحيانا أقول أن اللاقانون أفضل من القانون المزور والمغشوش، أقله لأن الوضع الأول أكثر صراحة ووضوحا فى إهانته للمجتمع، بحيث يمكن الغيورين من التعامل المباشر معه بلا عناء. أما القانون المغشوش فإنه قد يخدع البعض ويتطلب جهدا لإقناع الرأى العام بالعوار الكامن فيه، وقد يتهم الغيورون فى هذه الحالة بإهانة السلطة. وقانون الجمعيات الأهلية من ذلك الصنف الأخير.
https://t.me/wilayahinfo