وفي هذا الصدد، وبعد ثمانية أشهر من انتخابات مجالس المحافظات في العراق، تم تحديد الهياكل السياسية لكركوك بشكل نهائي، ووفقاً لاتفاقات الأحزاب الحاكمة في هذه المحافظة، أصبح رابوار طه، ممثل الاتحاد الوطني، محافظاً لمحافظة كركوك وانتخاب النائب العربي رئيساً لمجلس المحافظة.
إن تشكيل حكومة كركوك المحلية واختيار ربوار طه لمنصب المحافظ جاء نتيجة عملية معقدة، اتخذت قراراتها في اجتماع عقد في 10 آب (20 آب) في فندق الرشيد ببغداد.
وعقد الاجتماع بدعوة من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في إطار جهود الحكومة المركزية لحل الخلافات السياسية في محافظة كركوك، حيث لم يجتمع مجلس المحافظة إلا مرة واحدة منذ الانتخابات.
وبموجب الاتفاق الذي تم في اجتماع 9 أشخاص من فندق الرشيد، فإن المناصب الرئيسية التي تشمل منصب المحافظ ورئيس المجلس، ستتولاها بشكل دوري فصيلا العرب السنة والاتحاد الوطني.
وأظهر الاحتفال الكبير لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني بفوزه بمنصب محافظة كركوك القيمة السياسية لهذا الإنجاز والانتصار على منافسه الرئيسي الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وتقع محافظة كركوك، التي تسمى أيضاً “العراق الصغير” لتنوعها العرقي وبنيتها الفسيفسائية، على بعد 300 كيلومتر شمال بغداد، وهي من أكثر مناطق العراق تعقيداً من حيث البنية السياسية والاجتماعية، وتضم هذه المحافظة بالإضافة إلى الأقلية المسيحية، مجموعات مختلفة من العرب والأكراد والتركمان، ما جعلها مركزاً للصراعات السياسية والطائفية منذ سنوات.
إضافة إلى ذلك، تعتبر كركوك منطقة استراتيجية تربط وسط العراق بشماله الشرقي، ومن ناحية أخرى، فهو يعتبر أحد أهم مصادر الدخل للعراق بسبب احتياطياته الضخمة من النفط والغاز، ولهذا السبب فإن الأحزاب الكردية أكثر حساسية للسيطرة عليه.
صدمة للحزب الديمقراطي
ورغم انتخاب طه، إلا أن انتخاب محافظ كركوك لم يخلُ من التحديات، كما خلقت السجالات التي دارت حول جلسة التصويت أزمة أخرى، وقال الحزب الديمقراطي، باعتباره الخاسر الرئيسي في هذا المجال، إنه لا يعترف بما حصل.
وقال المتحدث باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني في هذا الصدد: إن “ما تم بتاريخ 10 آب في فندق الرشيد ببغداد لتعيين محافظ وحكومة كركوك المحلية دون اطلاع جميع الأطراف وبغياب ممثلي التركمان وجزء من المجلس الوطني الكردستاني” العرب والحزب الديمقراطي الكردستاني ليسا قانونيين ومرفوضين ونعتقد أن ما تم لا يمكن أن يكون حلاً لتجاوز مشاكل كركوك، إن حل مشاكل هذه المدينة وعلاج آلام أهالي كركوك لا يمكن أن يتم بالمساومات والألعاب السياسية، الحل ليس بالوقوف منفردين، وليس بمحاولة تهميش الأطراف، وعلى جميع الأطراف المشاركة في إدارة كركوك بحسن نية وبما يتماشى مع خدمة الشعب.
وقال آري هارسين رئيس الفرع الرابع للحزب الديمقراطي الكردستاني في محافظة السليمانية، عن تعيين محافظ كركوك: إن “ما حدث بشأن تعيين المحافظ كان مسرحية ومؤامرة أولئك الذين صنعوا المؤامرة لا يجرؤون حتى على شرح هذه الاتفاقية بكلمتين”.
وكانت عملية تعيين محافظ كركوك بمثابة نوع من المعاملات لتوزيع المناصب، ما ترك منصبي المحافظ ورئيس مجلس المحافظة لحزب الاتحاد الوطني، وتم استبعاد بعض الأحزاب الأخرى، وسادت موجة من الاستياء من الحزب الديمقراطي ويظهر أن كركوك لا تزال في دوامة التوتر والأزمات والتوتر السياسي لأنه، حسب خبراء القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة مثل الجبهة التركمانية، فإن بعض العرب السنة وكذلك الحزب الديمقراطي غائبون عن هذه السياسة.
ولا تتعلق مشاكل كركوك بالمرحلة الحالية، لكن جذورها تعود إلى أربعة عقود، عندما نفذ نظام صدام حملة “تعريب” واسعة النطاق هدفت إلى تعزيز الوجود العربي واستبعاد العرقيات الأخرى في المحافظة، ما خلق تحديات عرقية، واشتدّت حدة هذه التحديات في المنطقة واستمرت بشكل أو بآخر بعد إسقاط النظام البعثي.
ووصلت الخلافات إلى حد عدم إجراء انتخابات مجالس المحافظات في كركوك عامي 2009 و2013، ولم تشهد المحافظة أي انتخابات منذ عام 2005، عندما صدر قانون انتخابي جديد.
بين عامي 2013 و2023، لم يتم إجراء أي انتخابات لمجالس المحافظات في العراق، إلى أن أجريت هذه الانتخابات مرة أخرى في ديسمبر 2023.
وكان حزب الاتحاد الوطني، الذي كان مرتبطا بحركات وجماعات كردية وعربية شيعية، يتوقع دعم هذه الحركات في انتخابات مجلس كركوك، وفي النهاية تمكنت هذه المحافظة من تحقيق أعلى نسبة مشاركة باسمها، وبدأ الاتحاد الوطني بـ5 مقاعد، المشاورات حول منصب المحافظ ورئيس مجلس كركوك، وفي هذا الصدد، حصل بافل طالباني على موافقة 3 أعضاء من العرب السنة ومقعد واحد من المسيحيين لتشكيل تيار الأغلبية بدعم من 9 نواب.
أدت عواقب استفتاء انفصال إقليم كردستان الذي أجري في سبتمبر 2017 إلى مزيد من التفاقم والتعقيد في كركوك، وبعد دخول قوات الحكومة الاتحادية إلى كركوك إثر فشل استفتاء انفصال الإقليم وخروج المحافظ الكردي من المدينة، تغيرت علاقات القوة وتمكن العرب والتركمان من الهيمنة على صنع القرار في هذه المدينة.
وحسب الدستور، تحكم دولة العراق نظام فيدرالي، ويحكمها في كل محافظة مجلس يعتبر الحكومة المحلية لتلك المحافظة، ومنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أصبحت كركوك مركز الصراع بين العرب والأكراد وبين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان.
ورغم الجهود المبذولة لحل النزاع من خلال المادة 140 من الدستور، التي تنص على حل المناطق المتنازع عليها، إلا أن العملية الانتخابية تأخرت مراراً وتكراراً بسبب التعقيدات السياسية والأمنية.
والحقيقة أن أزمة كركوك هي صورة من صور الأزمة السياسية العامة في العراق، التي محورها وأساسها غياب التوافق وانعدام الثقة، وتظهر هذه الأزمة بوضوح بعد كل انتخابات برلمانية أو محلية، وتحاول الأحزاب الحصول على أقصى قدر من الفوائد والامتيازات السياسية.
كفة الميزان لمصلحة الاتحاد الوطني
ومع تعيين محافظ جديد، يبدو أن حزب الاتحاد الوطني قد تمكن من تحسين وضعه في هذه المحافظة ومواءمة المجموعات العرقية الأخرى مع سياساته.
وقال المحلل السياسي وائل الركابي لروج نيوز: إن “مسألة تشكيل الحكومات سواء المحلية أو الاتحادية تعتمد على التوافق السياسي بين الأحزاب التي فازت في الانتخابات، لذلك فإن الاتحاد الوطني في محافظة كركوك لديه اتفاقيات مع المسيحيين”، والأحزاب العربية والسنية الأخرى ولهذا حصل على منصب المحافظ.
وما زاد من قيمة الانتصار السياسي للاتحاد الوطني هو أن هذا الانتصار جاء في وقت بدا فيه الحزب الديمقراطي في ذروة قوته، وعقد زعيمه مسعود بارزاني تحالفا مع أبرز القوى السياسية العراقية خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد لتعزيز مكانة الحب الديمقراطي في كركوك.
كما أجرى بارزاني اتصالات مع شخصيات سياسية عربية سنية، وخاصة خميس الخنجر، زعيم الحزب الحاكم، بهدف الاتفاق على تقاسم المناصب القيادية في حكومة كركوك المحلية، وعلى الرغم من كل هذه الجهود، خسر حزب بارزاني اللعبة السياسية في كركوك لمصلحة الاتحاد الوطني، والآن حتى أسس حكومته المستمرة في أربيل هشة.
ويحاول الاتحاد الوطني استعادة منصب رئيس الوزراء أو رئيس الإقليم من البارزاني في انتخابات إقليم كردستان المقبلة، كما زادت الحملة الدعائية للاتحاد الوطني من نشاطها في محافظتي أربيل ودهوك في الأسابيع الأخيرة، لعلها هذه المرة تقلل من خلافاتها مع الحزب الديمقراطي.
ومنذ أن تولى رابوار طه منصبه بعد اجتماعه الأخير مع رئيس الوزراء، فإن ذلك يظهر أن التعاون مع الحكومة المركزية سيزداد خلال فترة ولايته، ويقيم الاتحاد الوطني، الذي له دور قيادي في كركوك، علاقات ودية مع بغداد، الأمر الذي من شأنه تحسين مستوى العلاقات.
لكن داخل المنطقة سيكون الوضع مختلفا تماما، وتصعيد المواجهة مع الحزب الديمقراطي هو السيناريو الأهم.
ويتنافس هذان التياران السياسيان الكرديان الرئيسيان مع بعضهما البعض بشدة للفوز بالمزيد من المقاعد في الانتخابات المحلية، ولا شك أننا سنشهد في الانتخابات الرئاسية البرلمانية والإقليمية المقبلة المزيد من التوترات السياسية بين الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي، وبالتالي حتى تنعدم الثقة بين الطرفين وكقاعدة عامة، ستتكرر الحلقة المفرغة للخلاف.
وحسب الخبراء، فإن كل المؤشرات تؤكد أن التوترات السياسية ستستمر في هذه المحافظة مع تعثر الحزب الديمقراطي مستقبلاً، ما يعني أنه بسبب انعدام الثقة بين الطرفين، يمكن أن تتصاعد الخلافات في أي وقت.