الرئيسية / تقاريـــر / طوفان الأقصى وجبهات الإسناد (1-3).. حزب الله ومبدأ الجبهة الوفيّة – محمد فرج

طوفان الأقصى وجبهات الإسناد (1-3).. حزب الله ومبدأ الجبهة الوفيّة – محمد فرج

أثبت حزب الله في طوفان الأقصى أنه يجيد التعامل مع التطورات الميدانية مع الاحتلال بمنطق “القلب الدافئ والعقل البارد”، كيف؟

مع استمرار معركة طوفان الأقصى، وتحوّلها إلى ملحمة حقيقية في تاريخ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، يتكرّس أكتوبر كشهر المحاولات الجادة لمواجهة الاحتلال من جهة، وتتسم هذه المحاولات بسمة “تعدد الجبهات” من جهة أخرى.

لكن أكتوبر 73 ينطوي على تجربة متباينة عن نظيره الأصغر بـ 50 عاماً، ففيه انطلقت الحرب بتوقيت متزامن ومنسق بين الجيشين السوري والمصري. اتفق الطرفان على توقيت محدد، وبدايات ميدانية محددة. لم يترك الجيشان الكثير لمتغيرات الميدان، وبذلك كانت شجرة اتخاذ القرارات (decision Tree) شبه جاهزة لمختلف الاحتمالات.

في المقابل، انطلق “طوفان الأقصى” بتوقيت فلسطيني خالص، الأمر الذي أضاف أعباء على سائر أطراف المقاومة للاستجابة السريعة، والتي أبدعت فيها، ولم تتأخر. ولأن العملية أحيطت بسرية كاملة (كان ذلك ضرورياً في كل الأحوال)، لم يكن هنالك تنسيق مسبق لمتغيرات الميدان، التي انطوت على مفاجآت كثيرة، حتى على الفلسطينيين أنفسهم.

تكمن المفارقة بين التجربتين، أنه على الرغم من التنسيق المسبق الكامل عام 73، فإن الجيش السوري تُرك وحيداً في ميدان المعركة، بعد أن تلقّفت مصر قرار وقف إطلاق النار في الـ22 من أكتوبر، وسعت من أجله، واستخدمته في تأسيس مرحلة جديدة من العلاقة بالاحتلال.

كانت صورة الجيشين في بداية الحرب تعطي أملاً كبيراً للجمهور العربي: الزخم المصري إلى جانب النبض السوري؛ مصر بجيشها الأكبر، والأكثر تجهيزاً، تحديداً براً وبحراً، إلى جانب سوريا المشاكسة العنيدة.

أما في أكتوبر الجديد، فعلى الرغم من عدم معرفة حزب الله بالتوقيت، ومفاجأته بالعملية صباح السابع من أكتوبر، فإنه صاغ خطة الاستجابة والتنسيق بسرعة (ربما تسبب ذلك باستشهاد عدد أكبر من عناصر المقاومة في الأيام الأولى، إذا ما قورنت بالأيام اللاحقة). كانت حسابات حزب الله تنطلق من قاعدة “كيف يبدأ الدعم والإسناد؟”، وليس من قاعدة “هل نفتح جبهة إسناد؟”. منذ السابع من أكتوبر، فتحت جبهة الإسناد، بزخمها وروحها، ولا تبدو أنها ستتوقف بمعزل عن توقف الحرب الدائرة في غزة.

كيف تحرّكت الجبهة الذكية؟
أثبت حزب الله في طوفان الأقصى أنه يجيد التعامل مع التطورات الميدانية مع الاحتلال بمنطق “القلب الدافئ والعقل البارد”. في الساعات الأولى من العملية، كانت المشاهد التي جاءت من غزة تحمل سيميائية من نوع غريب ومُنتظر: مشاهد لجنود الاحتلال، منقادين، وأذلاء، وجرحى وضعفاء، يتهاوون ببساطة عن أسقف الدبابات.

أثارت هذه المشاهد توقعات متعجلّة: “إننا في اليوم الأول من حرب التحرير”. وحده السيد نصر الله كان يقرأ المشهد بروية أكبر، وإن كان بحماسة أكبر أيضاً (مجدِّداً معادلة القلب الدافئ والعقل البارد). إنها لحظة عظيمة في تاريخ الصراع، وصفعة عميقة للاحتلال، لكنها ليست لحظة “الضربة القاضية والنهائية”. انطلاقاً من هنا، عملت جبهة حزب الله الذكية منذ اليوم الأول، وفق قواعد مدروسة بدقة:

1. أبراج المراقبة والرادارات أولاً: حاول البعض التقليل من أهمية الإصابات لمعدات المراقبة والرادارات في الأيام الأولى، وتوصيفها كـ “جبهة حرب ضد أبراج الاتصالات”. كانت الخطوات الأولى في التركيز على هذه المعدات، بالإضافة إلى خساراتها المادية، تزيد في الارتباك الإسرائيلي في تفسير هذا الفعل.

أن يكون البدء بهذا النوع من الأهداف، يعني التهيئة لإغماض عيون المراقبة وإطفائها، تمهيداً لخطوة ما (اجتياح بري مثلاً)، الأمر الذي أبقى حالة التأهب الإسرائيلي في الشمال في أعلى حالاتها، الأمر الذي يعني، بطبيعة الحال، تخفيف الضغط عن غزة. وبسبب عدم قدرة الإسرائيلي على ترك هذه المعدات معطَّلة، فترةً طويلة، أصبح فريق الصيانة لها هدفاً جديداً للمقاومة في لبنان.

2. الردود السريعة: لو راجعنا البيانات الصادرة عن المقاومة الإسلامية في لبنان، والتي كانت مختصرة ومركَّزة ومكثَّفة، لوجدنا أنها مقسَّمة وفق هيكلية موحدة لافتة للانتباه: الجزء الأول بآية من القرآن الكريم؛ الثاني مبرِّر العملية وسببها؛ الثالث أدواتها “الأسلحة الملائمة”؛ الرابع نتيجتها “إصابات دقيقة”؛ الخامس خاتمة (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).

لو قمنا بمراجعة هذه البيانات لوجدنا أن العمليات كانت دائماً دعماً للشعب الفلسطيني الصامد، وإسناداً للمقاومة في غزة (وهو سبب أساسي ومركزي وحاضر دائماً)، يُضاف إلى ذلك أحياناً سبب راهن وطارئ (ردّ أولي على استهداف الصحافيين فرح وربيع؛ رد على قصف مصنع الألمنيوم؛ رد على استهداف المنازل في القرى الجنوبية… إلخ). سرعة الردود هي سمة مشاركة حزب الله في هذه الحرب، فغالباً ما يكون الرد بصورة مباشرة بعد الحادثة (لا تتجاوز 24 ساعة)، وفي ذلك تجاوزٌ لمرحلة “الرد في المكان والزمان الملائمين”.

3. الإصابات الدقيقة: لم تدخل المقاومة الإسلامية في لبنان في لعبة “الكمّ غير المجدي”. الرصاص الذي استُخدم أصاب أهدافه. صواريخ بركان التي أُطلقت حققت النتائج المرجوة. دبابات الميركافا التي استهدفت تضررت أو عُطبت. الثُّكَن التي استُهدفت تضررت أو تهدَّمت.

كل ذلك يعني أن العمليات، التي نفذتها المقاومة، استخدمت خلالها أسلحة/موارد بشرية كافية لتحقيق هدف، وحققته. ربما لا يوجد إلى الآن تقارير إحصائية دقيقة لنسبة العمليات الناجحة من مجمل المحاولات، إلا أن المتابعة الإخبارية تدلّل على أن هذه النسبة عالية، وربما تكون الأعلى في تاريخ المواجهة مع الاحتلال.

4. التصعيد التدريجي والتراكم: استخدام آليات “العمل الذكي” بدلاً من “العمل المُجهد”، كان الأساس في تحقيق زخم النتائج الجيدة للمقاومة، والتي وثّقت النتائج لـ45 يوماً من الحرب (أكثر من 354 جريحاً وقتيلاً، إخلاء 43 مستوطنة، إجلاء 70 ألف مستوطن، عطب أكثر من 21 نظام تشويش و170 كاميرا، استهداف 40 موقعاً عسكرياً 275 مرة، عطب أو تدمير 21 آلية).

تُضاف إلى ذلك كله النتائج المعنوية (الهجرة العكسية، عدم العودة إلى مستوطنات الشمال، الضغط على خدمات الدعم النفسي… إلخ) والنتائج المتعلقة بالتخطيط الاستراتيجي (القلق من استنفاد مخزون السلاح في غزة، تجميد حركة فِرَق عسكرية وطائرات ودبابات لحسابات تتعلق بالشمال… إلخ).

5. لا هدنة ولا وسيط: الجبهة الوحيدة في الحرب، التي تمتلك وسيطاً للتفاوض، هي جبهة غزة. لا حزب الله في لبنان، ولا القوات المسلحة اليمنية، ولا المقاومة العراقية، لديها أي وسيط. لذلك، تتحرك هذه الجهات بمنطق موقعها كجبهات إسناد، وفق تأثير ضمني ومفهوم بحسب التطورات في غزة، لكنّ استقراء موقف هذه الجبهات (الهدنة الضمنية من عدمها) يشكل عامل ضغط إضافياً على “إسرائيل”.

عن مستوى التدخل والإسناد، ومساره الزمني، وطبيعة التدخل في اليوم الأول وطبيعته في اليوم الخمسين… لو راجعنا ذلك بهدوء وتمعّن، لأدركنا أن الجبهة التي فتحها حزب الله من جنوبي لبنان، لم تكن قوية ووفية فقط، بل كانت ذكية أيضاً!

 

 

شاهد أيضاً

[ إِنَّ إِسْرائيلَ تَجْنِي فِي جُنُونْ ] القصيدة من ديوان سيوفٍ علىٰ الظّالمين

[ إِنّ إِسْرائيلَ تَجْنِي فِي جُنُونْ ] – قصيدةٌ من ديوان سيوفٍ علىٰ الظّالمين   ...