الوقت- أظهرت ردود الفعل الأمريكية الأخيرة على بيان الجيش اللبناني حجم الارتباك الذي تعيشه واشنطن والكيان الصهيوني جراء أي موقف لبناني وطني يكشف حقيقة الانتهاكات التي يتعرض لها الجنوب اللبناني بصورة مستمرة، فالغضب الأمريكي غير المتناسب مع مجرد بيان رسمي صادر عن مؤسسة عسكرية يفترض أنها شريكٌ لواشنطن، يعكس تحوّلاً عميقاً في ميزان القوى، وتراجعاً في قدرة الولايات المتحدة على التحكم بمسارات القرار داخل لبنان كما كانت تفعل سابقاً، هذا التوتر، الذي تُرجم بإلغاء الزيارة الرسمية لقائد الجيش اللبناني إلى واشنطن ووقف كل اللقاءات والجلسات المقررة، ليس عملاً بروتوكولياً عابراً، بل مؤشراً على خوف أمريكي من صعود خطاب لبناني يضع الكيان الصهيوني في موقع المعتدي والمزعزع للاستقرار، هذه المعادلة تفضح هشاشة الادعاءات الأمريكية حول دعم «الاستقرار»، وتكشف أن واشنطن تنظر لأي موقف لبناني وطني على أنه تهديد مباشر لمشاريعها ونفوذها في المنطقة.
غضب واشنطن..هل هو دفاع عن الاستقرار أم عن الهيمنة؟
إلغاء واشنطن زيارة قائد الجيش اللبناني، وما تبعه من إلغاء لقاءات مع مسؤولين في البيت الأبيض والكونغرس، لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد اعتراض بروتوكولي؛ بل هو رسالة سياسية واضحة مفادها بأنّ الولايات المتحدة تريد من لبنان جيشاً يخدم رؤيتها لا رؤية لبنان، فعندما يصدر الجيش اللبناني بياناً يدين الاعتداءات المستمرة على أراضيه، سرعان ما تعتبر واشنطن ذلك تحدياً مباشراً لها، وكأنها صاحبة القرار في ما يجب أو لا يجب أن يقوله الجيش اللبناني، هذه الحساسية المفرطة تكشف أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع لبنان بوصفه دولة ذات سيادة، بل بوصفه مساحة نفوذ يجب ضبط مؤسساتها وفق مصالحها.
إنّ ما يزعج واشنطن ليس لهجة البيان بقدر ما يزعجها بدء تبلور خطاب رسمي لبناني يضع النقاط على الحروف، ويحدد بوضوح من هو المعتدي على الحدود ومن يمارس الخروقات الجوية والبحرية والجوية بشكل مستمر، فالولايات المتحدة، التي تقدّم نفسها كراعية «السلام»، تجد نفسها في موقف محرج عندما يصدر بيان رسمي يكشف تناقض شعاراتها مع الواقع، ومن هنا، يصبح الضغط على المؤسسة العسكرية اللبنانية محاولة استباقية لكبح استقلال قرارها، ومنعها من التعبير عن حقيقة ما يفعله الكيان الصهيوني في الجنوب.
حساسية واشنطن من تسمية المعتدي.. لماذا تخشى الحقيقة؟
البيان الذي أصدره الجيش اللبناني وأشار فيه إلى استمرار خروقات الكيان الصهيوني لسيادة لبنان، شكّل صدمة للولايات المتحدة لأنها ببساطة لا تريد خطاباً رسمياً لبنانياً يصف الأمور كما هي، فالإدارة الأمريكية، التي تنفق مليارات الدولارات لدعم الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً، لا يمكنها قبول أن يخرج شريكٌ عسكري كلبنان ليقول علناً إنّ مصدر التوتر في الجنوب هو الاعتداءات المتواصلة للكيان الصهيوني، هذه الحقيقة البسيطة تُربك واشنطن لأنها تهدم الرواية التي تحاول تسويقها عن «حق» هذا الكيان في حماية نفسه، متجاهلة أنه الطرف الذي ينتهك السيادات ويعتدي على المدنيين.
إنّ اعتراض أعضاء الكونغرس، ومن بينهم ليندسي غراهام، يكشف عن مستوى القلق الأمريكي من أي خطاب لبناني لا يُحمّل المقاومة مسؤولية ما يجري، فبالنسبة لواشنطن، يجب أن يكون أي توتر على الحدود نتاجاً لدور المقاومة حصراً، لا نتيجة الاعتداءات اليومية، وحين يكسر الجيش اللبناني هذه القاعدة غير المعلنة، تتحرك الماكينة السياسية الأمريكية لإعادة ضبطه، سواء عبر التهديد بوقف المساعدات أو عبر إلغاء اللقاءات الرسمية، هذا السلوك يعكس حقيقة أساسية: واشنطن لا تخشى البيانات، بل تخشى أن يتحول هذا الخطاب إلى سياسة لبنانية ثابتة تقوّض القدرة الأمريكية على التحكم بمسار القرار السيادي في بيروت.
الكيان الصهيوني… القلق من أي خطاب لبناني مستقل
الطرف الأكثر قلقاً من الموقف اللبناني ليس الولايات المتحدة وحدها، بل الكيان الصهيوني الذي يشعر أن أصواتاً رسمية في لبنان بدأت تُسقط عنه ورقة التوت القديمة التي طالما استخدمها لتبرير اعتداءاته، فعلى مدى عقود، كان هذا الكيان يراهن على انقسام المؤسسات اللبنانية وترددها في تسمية المعتدي، لكن البيان الأخير للجيش اللبناني جاء صريحاً إلى حد أربك حساباته، فهو يشير بوضوح إلى أن الكيان الصهيوني هو من يزعزع الاستقرار جنوب لبنان من خلال الخروقات اليومية، الجوية والبرية والبحرية، والتي لم تتوقف منذ سنوات.
يشعر هذا الكيان أن أي تحوّل في خطاب المؤسسات الرسمية اللبنانية يُعدّ تهديداً وجودياً لروايته التي يسوّقها عالمياً. فحين يتحدث الجيش اللبناني، بصفته مؤسسة وطنية تحظى بإجماع داخلي واسع، عن الاعتداءات الممنهجة، يصبح من الصعب على الكيان الصهيوني التلاعب بالرواية الدولية، وخاصة أن تقارير الأمم المتحدة نفسها توثق الخروقات، ومن هذا المنطلق، فإن الموقف اللبناني الأخير يشكل إحراجاً كبيراً للكيان، لأنه يعزز شرعية موقف لبنان الدفاعي، ويُبرز أنّ الأزمة الحقيقية ليست في «ردود الفعل» على الاعتداءات، بل في الاعتداءات نفسها. وهذا ما لا يريد الكيان الصهيوني لأي جهة رسمية أن تقوله.
التداعيات
البيان الصادر عن الجيش اللبناني وما نتج عنه من ردود فعل غاضبة من واشنطن والكيان الصهيوني يشيران إلى بداية مرحلة جديدة في علاقة لبنان بهذين الطرفين، فلبنان، الذي اعتادت واشنطن على التأثير في قرارات مؤسساته، بدأ يُظهر بوادر استقلال في الموقف العسكري الرسمي، وهو ما يقلق صناع القرار في الولايات المتحدة، وهذا القلق ليس على «الاستقرار»، كما يزعمون، بل على تراجع قدرتهم على توجيه السياسات اللبنانية بما يخدم مصالحهم ومصالح الكيان الصهيوني في المنطقة.
ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة زيادة في الضغوط الأمريكية، سواء عبر التهديد بإعادة النظر في المساعدات العسكرية أو عبر حملات سياسية ضد قيادات الجيش، إلا أن هذه الضغوط قد تأتي بنتائج عكسية، إذ إنها تُظهر للرأي العام اللبناني حجم التدخل الأمريكي في التفاصيل السيادية للدولة، ما يعزز القناعة بضرورة تحصين القرار الوطني بعيداً عن الإملاءات الخارجية، كما قد تقود هذه التطورات إلى إعادة تقييم شاملة لطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، وخاصة إذا استمرت الأخيرة في التعامل مع لبنان كدولة تابعة لا كدولة ذات سيادة.
في الختام، إنّ ردود الفعل الأمريكية والامتعاض الواضح لدى الكيان الصهيوني على بيان الجيش اللبناني يكشفان حجم التوتر الذي يُحدثه أي خطاب لبناني مستقل يلامس الحقيقة، فالموقف اللبناني الأخير لم يكن تصعيداً، بل تأكيداً لسيادة وطنية تجاه خروقات موثقة ومتواصلة، لكنّ واشنطن، ومعها الكيان الصهيوني، لا تريد للبنان أن يتحدث بلغة سيادية، بل بلغة تخدم روايتهما، ومن هنا، فإن الأزمة الحقيقية ليست في البيان، بل في أن لبنان بدأ يعيد صياغة معادلاته الوطنية بعيداً عن الوصاية الأمريكية، هذا التحول، وإن كان لا يزال في بدايته، يشير إلى إمكانية بناء موقف لبناني أكثر صلابة في وجه محاولات الهيمنة، ويعيد التأكيد على أن استقلال القرار الوطني ليس ترفاً بل حاجة وطنية لحماية البلاد وسيادتها واستقرارها الحقيقي.