الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / الربيّون عطاء حتى الشهادة

الربيّون عطاء حتى الشهادة

الفصل الأول: التعبئة الجهادية
المؤمن. فالمجاهد هو شخص يُضحّي بالمال، بالروح، بكلّ ما يتعلّق أو يُحبّ، ويُقدِّمه رخيصاً في سبيل تحقيق ذلك الهدف المنشود، فأمام سمو الهدف كل شيء يصغر في عين التعبوي المجاهد، ولا تُعدّ له أية قيمة، ولا تحزنه أو تضايقه التضحيات ومواجهة بعض الخسارات، أو فقدان بعض الملذات الدنيوية، لذلك لا معنى عند المجاهد للتوقّف مهما بلغت المصائب وحلّت الابتلاءات وعظمت التضحيات.

في الخلاصة، التعبئةُ هي حركة ثورانٍ داخليٍّ ظهر من حضنِ المجتمعِ الإسلاميّ، لتصبح ظاهرةً عامَّةً لها دورُها وأثرُها وعواملها، وقد شاهدنا بأم العين أثر هذه التعبئة الجهادية في المقاومة وصنع الانتصارات وفي مساعدة النّاس أيضاً للحفاظ على حقوقهم والدّفاع عن كراماتهم.

ما هي الغاية من معرفة هذه المميّزات؟
إنّ معرفة مميّزات التعبئة وخصائص الفكر التعبوي عامل مهم وطريق أساسيٌّ للتعرّف على مدى التأثير والدور الذي يلعبه هذا الفكر التعبوي الجهادي من الناحية التربوية في نهضة المجتمع، وإيقاظه من سباته العميق. كما ويتضح بذلك دوره المستقبلي في تحديد الوظيفة المطلوبة وتشخيص التكليف المُلقى على عاتق المجاهدين في التعبئة.

18

11
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
فالتعبئة هي حركة اجتماعية هادرة، نرى شبيهاً لها في الطبيعة، ومثلها كمثل الماء، فالماء لو ترك راكداً هامداً، فإنّ الطاقة العظيمة الموجودة فيه لن تظهر ولن تثمر، إلا في حال تمّ تفعيلهاوتحريكها, فهي تصبح عند ذلك قادرة على فتح الأخاديد العقيمة وابداع طاقات عظيمة تنير المدن الكبيرة.

وكما هو معروف باصطلاح الفلسفة: أنّ الماء الراكد فيه طاقة، بالقوة، فإنّ فيه الإمكانية ليصبح طاقة حقيقية بالفعل, فكذلك التعبوي، الذي هو شاب في حالة همود وركود، لكن عندما تفعّل طاقاته وقدراته يصبح محركاً ثورياً للأمّة.

فقوّة التعبئة الجهادية مثل قوة هذا الماء الجاري من الينابيع الهادرة: قوةٌ ذات مسيرٍ متَّصلٍ له صدى صارخ، وغليان فائر، لا تتوقف عن الحركة والنشاط، كما لا يطرأ عليها التحلل ولا يصيبها عفن العوامل الخارجية.

هذه القوة التي كانت ـ ولقرون مضت وبفعل عوامل عديدة ـ مخبّئة ومدفونة في قلب مجتمعنا، كانت بحاجة إلى من يُحرّكها حتى تصبح حرّة وفعالة، وبعناية إلهية كان هذا المُحرّك هو (الثورة المباركة في إيران) التي غيّرت حال التاريخ المعاصر، وأخضعت رقاب القوى الكبرى، وهدمت وزلزلت قصور الاستبداد والاستكبار.

إنَّ الإمام الخميني قدس سره كان يعرف جيداً قيمة التعبئة والتعبوي،

19
12
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
والتعبئة أيضاً بدورها كانت تعرف إمامها جيّداً، وهذه الرّابطة هي رابطةُ حبٍّ أبديَّة، فمن الطّبيعي أن ترتبط الجماهير بعلاقة حب أبدية بمن أيقظها من سباتها، وأرجع لها عزّتها.

واليوم ما زالت التعبئة المباركة تكمل دور الإمام الخميني قدس سره في الهداية وإيقاظ النائمين لتمهِّد الأرض إن شاء الله تعالى لدولة الحق والعدل الإلهي.

20

13
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
المحور الثاني: التعبئةُ ورجال الله

صفات أبناء التعبئة
مع أخذنا بعين الاعتبار الأدوار الخطيرة والتكاليف الصعبة التي تواجهها الأمّة، فإنّ السؤال يحضر عن العناصر الكفيلة بإعداد أفراد على مستوى القضية، أي إعداد رجال الله والتعبويين الذين يحقِّقون إرادة الله تعالى في إزالة الموانع عن طريق الهداية، والذين هم في الحقيقة يقومون بدور الأنبياء والأئمة عليهم السلام. لذلك أليس من الواجب وجود مستوى من الأخلاق والسلوك والعلم والمعرفة يليق بهذا المستوى من الدور؟

إنّ الذي آمن بالإسلام قلباً وقالباً، عقيدةً وأحكاماً، بشكلٍ صادق ويقينيّ سوف يكون جاهزاً وحاضراً ـ وبكامل قوّته ـ لأداء التّكليف في طريق الإسلام الأصيل وهذه هي ميزة التعبوي المجاهد، وأفضل

21
14
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
تعبيرٍ ورد في القرآن الكريم يمكن أن يُرادف لفظ التعبويين هي كلمة ﴿رِبِّيُّونَ﴾، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾1.

ومعنى هذه الآية، أنّه في الوقت الذي أمر به الله تعالى الأنبياء بالجهاد، برز رجال لله شديدو الإخلاص، واستجابوا لنداء الجهاد وقاتلوا في ركاب الأنبياء ضد الكفار والمشركين.

فما هي صفات هؤلاء الربّانيين المجاهدين في القرآن الكريم؟ لنتعرَّف من خلالها على الصفات المطلوبة في التعبويين ليكونوا في صفوف المجاهدين الربيين في وقت الحاجة.

الاستقامة والصمود
لقد أثبت القرآن الكريم لهؤلاء المجاهدين في ركاب الأنبياء ميزة خاصة، وهذه الميزة تصدق بشكل دقيق على التعبوي اليوم، لأنَّه يواجه نفس الظروف والمصاعب، وإن اختلفت المظاهر والأشكال. فالله تعالى يقول في وصف هؤلاء المجاهدين: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾2.

ومعنى الآية، أنّه في ميدان الحرب يواجه المجاهدون القتل والجرح والكثير من الصعوبات والظروف القاسية، ويمكن أن تُتحمل

1 سورة آل عمران، الآية 146.
2 سورة آل عمران، الآية 146.

22
15
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
الحوادث المريرة والعذابات والمشقات والمصائب إلى حدود معينة ولمدة قصيرة، فكلُّ إنسان محدود بطاقة تحمُّل وسعة صبر معينة.

لكن عندما تطول الحرب: تضعف الإرادات بالتدريج ويصبح تحمّل المشكلات أمراً غير ممكن، ومع طول مدة المعارك يشيع الفقر والخراب والمرض والتشرّد وغياب الآباء عن العائلات، وهذا ما يُنتج ضغوطاً نفسيةً وآثاراً سلبية.

ومن جهةٍ أخرى، قد تضعف قدرةُ المجاهدين شيئاً فشيئاً، ويبدأ إحساسهم بفقدان القدرة على إدامة الحرب والصمود مقابل الأعداء، وبالنتيجة إذا استمرّت تلك الحالة من التداعي في أنفسهم فسوف نراهم – لا سمح الله – يخضعون للأعداء ويتهيّأون للاستسلام النهائي.

لكنَّ القرآن الكريم يصفُ أولئك المجاهدين في ركاب الأنبياء وضدَّ أعداء الله بأنهم أقوياء، ومدحهم بقوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾1.

فمع طول مدة الحرب وقسوتها والمصائب النازلة والعذابات المختلفة لا ترى أثراً أو علامة للضعف أو الوهن أو الاستسلام عندهم، لذا بشّر القرآن هؤلاء الصابرين والمُتحمّلين للمشكلات والمصائب ووعدهم بأعلى منزلة يمكن تصوّرها، ألا وهي: الحبّ

1 سورة آل عمران، الآية 146.

23
16
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
الإلهي لهم. قال تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾1.

هذا الحبّ هو ثواب إلهي أعطي للتعبويين المجاهدين الذين صبروا في الجبهات، ويُعطى لكل من يثبت في طريق الحقّ، وفي الحقيقة لا يمكن تصوّر أيّ ثواب أعلى من الحب الإلهي، لأنَّ الذي يصبح محبوباً لله تعالى سوف يكون مورداً للنِّعَمِ الكُبرى ومحلاً للفيوضات الإلهيَّة.

التعطّش للمغفرة الإلهية
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾2.
تريد الآية الشريفة أن تشير إلى مسألة قد يظنّها البعض تناقضاً في شخصية المجاهدين، وهي أنّ لسان حال أتباع وأنصار الأنبياء عليهم السلام في مقابل المصائب والعذابات هو طلب الغفران لذنوبهم ولإسرافهم، لكن لماذا؟

لأنّ الذين كانوا في ركاب الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أناساً معصومين، بل كانت لديهم هفوات وزلات، وأخطاء وسكرات، هؤلاء يطلبون من الله تعالى أن يغفر لهم زلاتهم ويُوفقهم ليقدموا كامل وجودهم في طريق نصرة الأهداف الإلهية، وبالمقابل فإنّ الله تعالى

1 سورة آل عمران، الآية 146.
2 سورة آل عمران، الآية 147.

24
17
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
يتجاوز – نتيجة صبرهم وتحملهم – عن إفراطهم وتفريطهم وما سلف من ذنوبهم.

طلب النصر والثبات
إنّ المجاهدين يواصلون السير في طريق الهداية بالرغم من كل النقائص والهفوات، والأمواج الشديدة والفتن التي تعترض طريقهم. لكن أشد ما يُقلقهم في هذا المسير وبشكل دائم هي (الحيل الشيطانية), إذ أنهم يخافون الوقوع في خُدع الشَّيطان فيلينون للباطل، وتضعف إرادتهم عن نُصرة الحقّ وبالتّالي هم دائماً في خطر الانحراف عن مسير الهداية.

وبعد مرحلة طلب المغفرة من الله تعالى, ينتقل المجاهد إلى استنزال النصر من عند الله, عبر الدعاء والتوسّل إليه, يقول الله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾1.

فبالتثبيت الإلهي والتسديد الربّاني يستطيع المجاهدون إكمال المسيرة للوصول إلى الهدف المنشود والانتصار على الكفر والكافرين، لأنّه بحسب تربيتهم لا ملجأ لهم إلا إلى الله فهو القوّة العظمى والمطلقة, وهو كهفهم الحصين, وملاذهم الآمن وغياثهم عند الضرورة.

1 سورة آل عمران، الآية 147.

25
18
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
الحب المتبادل

إذا تتبّعنا الصّفات التي وردت في القرآن لأنصار الأنبياء عليهم السلام ومن زمن بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم، فإننا سنجد التعبويين المجاهدين مصداقاً جميلاً لهذه الصفات في زماننا.

نعم، لقد كانت في صدر الإسلام ثلَّةٌ أو مجموعة من أفضل الأصحاب والأنصار حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت مُجاهدة، مُضحّية، يملؤها الإخلاص والحبّ وقد حاربت حتى النهاية. أو كأنصار سيد الشهداء الذين حاربوا وثبتوا حتى النهاية واستشهدوا. لكن الآية الشريفة تقول: ﴿رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ يعني مجاهدون كثر، وبناءً عليه يمكن القول: إنه لا مصداق لهذه الآية في عصرنا أبرز وأوضح من هؤلاء التعبويين، لأنّنا شاهدنا هؤلاء الشهداء بأعداد كثيرة وبمئات الآلاف قد قدّموا أنفسهم وأرواحهم قرابين لله تعالى خلال الحرب الدّامية على إيران أو في لبنان على مرّ سنين الاحتلال والمقاومة.

فعلى هذا النحو يوجد آيات عديدة في القرآن، وقد وردتْ في تفسيرها روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام مفادها أنها نزلت في شأن مجموعة من شيعة الإمام علي عليه السلام سوف تظهر في آخر الزمان.

ومن جملة الآيات التي يمكن تطبيقها على مصداق ﴿رِبِّيُّونَ﴾ في المجتمع الإسلامي، إضافة إلى أنّ شأن النُّزول يؤيّد هذا المطلب، هي الآية التالية حيث يقول الله تعالى:

26
19
الفصل الأول: التعبئة الجهادية
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾1.

فإنّ لَحْنَ هذه الآية يفيدُ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من حوله كانوا يعانون من وجود أفرادٍ ضعيفي الإيمان ومُزلزلي العقيدة، يغيّرون عقيدتهم ومواقفهم بين لحظة وأخرى.

والجدير بالذكر أنَّ عدَّةً من هؤلاء المسلمين كانوا يشاركون في صلاة الجماعة، ويصومون ويقومون بأعمال عبادية أخرى، لكنهم فيما بعد تراجعوا عن دينهم وتخلوا عن عقيدتهم, عندئذٍ أنزل الله هذه الآية لتعطي البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له: لا تقلق ولا تحزن، وتخاطب المؤمنين الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مُحذّرة لهم:

لا تتوهّموا أنّ دين الله لن يقوم إلا بكم! وبدونكم سوف يُمحى هذا الدين! فحتَّى لو تخلى عدَّةٌ من النَّاس عن نُصرة دين الله، فلن يمض ِالوقت حتّى يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه، يعشقونه ويعشقون الشهادة في سبيله، هذا العشق وهذا الحبّ قد استقر من كلا الطرفين: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، لا يَلجُون ساحات الجهاد أداءً للتكليف فقط بل لأنّهم أهل الحب الإلهي أيضاً, وهذه هي نيّتهم وغايتهم الأسمى.

1 سورة المائدة، الآية 54.

27
20

شاهد أيضاً

مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم

قال: نزلت في الحسين (عليه السلام) لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا. – ...