وأي صورة للعدالة وللرحمة يمكن أن يرقى إليها حكم كهذه الصورة التي يتجلى فيها (ابن أبي طالب) ودماؤه تنزف وأجله يسرع، وقد جئ إليه بقاتله، فلا يشغل باله ولا يؤرق حياته في لحظات وداعها سوى مصير قاتله.. وحين يقدر على الكلام تنفرج شفتاه عن هذه الكلمات: (يا بني عبد المطلب!! لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين.. أحسنوا نزله.. يعني قاتله.. فإن أعش، فأنا أولى بدمه قصاصا أو عفوا.. وإن أمت، فاضربوه ضربة بضربة… ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة، ولو بالكلب العقور)…!!! ورجل نسك من أرفع طراز، غزير الدمعة من خشية الله، دائم الاخبات لله… يلبس أخشن الثياب، ويأكل أجشب الطعام… ويحيا بين الناس كواحد منهم.. وكان نسكه كخليفة يتمم نسكه كعابد، فكان يأبى إلا مشاركة الناس في كل ما ينزل بهم من ضر وشظف.. ويخص نفسه من ذلك بالنصيب الأوفى..!! ولقد لخص لنا نسك خلافته وإمارته في هذه الكلمات: (أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ثم لا أشارك المؤمنين في مكاره الزمان..!!؟ والله، لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل، ولباب هذا البر، ومناعهم هذه الثياب.. ولكن، هيهات أن يغلبني الهوى، فأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى)..!!
(٤١)
هذه الومضة من حياته ومن عظمة منهجه وسلوكه، تصور على نحو متواضع، القضية التي نهض يقاتل من أجلها.. قضية استمرار عصر النبوة بكل فضائله ومزاياه، وإنها لقضية جديرة بولاء لا ينتهي، وتضحيات لا تفنى.. وهي لم تكن بالنسبة للإمام (علي) قضية خاصة، ولا قضية شخصية، بل هي قضية الإسلام كله، وقضية كل مؤمن أواب. وإذا كانت الأقدار ستؤثره وأبناءه من بعده، بأن يكونوا أعظم شهدائها وأشرف قرابينها، فلتكن مشيئة الله.. إن هناك من يموتون من أجل الباطل، ومن يموتون في سبيل الحق، فما مزية الحق على الباطل في مجال التضحية والفداء..؟؟ مزيته أن ضحاياه شريفة ورفيعة وغالية.. بينما ضحايا الباطل صغيرة دنيئة محقرة..!! فليكن هو وأبناؤه شرفا للحق في مماتهم واستشهادهم، كما كانوا شرفا له في محياهم..! وهكذا كان من الصعب عليه، بل من المستحيل أن يترك قضية الإسلام للأهواء التي هبت عليه جائحة، جامحة. كانت (المهادنة) مستحيلة.. وكانت (المسايرة) أكثر استحالة.. ولم يكن أمامه سوى أن يحمل سيفه وكفنه، ثم يمضي.. فللمسئوليات العظام خلق… وللتضحيات يعيش.. وإنه لسليل بيت، كانت العظمة دثاره، حتى في الجاهلية وقبل الإسلام.. وإنه لتلميذ دين نشأ، ونما، بين أروع التضحيات وأشرفها وأسماها…
(٤٢)
إنه لحواري رسول جعل صلاته، ونسكه، ومحياه ومماته لله رب العالمين.. فأين يذهب من هذا كله..؟؟ وأين يذهب منه أبناؤه الذين رباهم على نهجه، وغذاهم بفدائيته..؟؟. وماذا ينتظره وينتظرهم من أخطار..؟؟ الموت..؟ القتل..؟ الشهادة..؟ ليأت الموت، وليأت القتل، ولتأت الشهادة.!!! ليجئ ذلك كله مرة، وعشرا، وألفا.. فذلك دورهم في الحياة: أن يعلموا الناس في جيلهم وفي كل الأجيال، أن الوقوف إلى جانب الحق، والتضحية المستمرة في سبيله هما أصدق مظهر لشرف الإنسان وقداسة الإنسان!!… أليسوا آل بيت الرسول الذي قال: ” والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحياء، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل “..!! بلى.. إنهم أهله وأبناؤه.. ولقد حملوا مصايرهم فوق أكفهم، ومضوا إلى مسئولياتهم في حبور..!! لم يكن هناك ما يزعجهم، سوى أن الحرب التي يخوضونها مضطرين ليست من نوع تلك الحروب التي كانوا لا يلاقون فيها سوى جيوش الوثنية والشراك، فيفلون سلاحها ويسوون أقدارها بالتراب…!!