فأما عن الأول، فقد كان الحسن بطبيعته يؤثر السلام على الحرب. وكان يألف الأناة. ويختار في معالجة المشكلات أقرب الحلول من السكينة والقصد.. * وعلى سبيل المثال، نراه حين حوصرت المدينة في عهد الخليفة (عثمان) وحوصرت دار الخليفة نفسها، واستنفد الإمام (علي) طاقته وجهده في إطفاء الفتنة دون جدوى. يتقدم هو لأبيه الإمام برأيه في أن يغادر الإمام المدينة، حتى لا يقتل الخليفة وهو بها فيتخذها خصومه وحساده مادة للتشويش حوله..!! * وكذلك حين استشهد الخليفة (عثمان) وعرض الثوار الخلافة على (الإمام علي) فرفضها، ثم عرضت على آخرين من الصحابة فلم يكن أمامهم سوى الرفض تأسيا بعلي.. ثم زحفت الفوضى تهدد كل شئ، فعاد الثوار إلى (علي) ومعهم قادة الصحابة المسلمين يلحون عليه بقبولها فقبلها مكرها… يومئذ، كان للحسن رأي آخر يتسق مع طبيعته، فحواه أن يرفض أبوه البيعة، حتى تأتيه بإجماع المسلمين من كافة أقطار الدولة..!! ولقد كان يعلم أن البيعة تنعقد شرعا وعرفا بمن حضر الحرمين من المهاجرين والأنصار، لكنه إمعانا في نشدان السكينة وتجنب الفتنة، رأى أن يركب (الإمام) الصعب من الأمور، وينتظر مهما تكن الظروف بيعة جميع الأقاليم.. * ومثل ثالث: موقفه حين خرجت (السيدة عائشة) ومعها (طلحة والزبير) إلى البصرة، ليحرضوا أهلها ضد قتلة (عثمان). يومها رأى (الإمام علي) وقد أصبح بحكم خلافته مسؤولا عن أمن الدولة وسلامة الأمة.. رأى أن يخرج وراء هذا الركب ليلوي زمامه عما عساه يثير حربا أهلية، ويشجع حكام الشام على التمرد والعصيان..!
(٤٩)
لكن (الحسن) استجابة لطبيعة المسالمة، رأى أن يبقى أبوه بالمدينة، بل وأن يعتكف في داره حتى تمر الفتنة بسلام..!! هذه المواقف الثلاثة تكشف عن طبيعة صاحبها، وعن مدى تعلقه بالأناة، وإيثاره السلام. وأما عن التقدير الثاني، الذي أزجته ظروف الحرب وآثارها، فإن الحرب التي خاضها (الإمام علي) كانت قد فجرت من المشاكل والهموم ما يهد الجبال. وكانت آثارها المرهقة، قد أجهدت المجتمع والدولة كليهما. وكان (الحسن) وهو يتلقى البيعة بيمينه، يرن في سمعه صدى كلمات أبيه الناقمة والآسفة التي وجهها في أخريات أيامه لأهل الكوفة الذين كانوا – وهم أنصاره – أشد إرهاقا له من خصومه..!! (.. أما والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم، وقبضني إلى رحمته من بينكم. فقد والله ملأتم صدري غيظا، وجرعتموني الأمرين أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب.. لله أبوهم!! هل كان فهم أشد لها مراسا وأطول معاناة مني..؟؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين.. وها أنذا اليوم. وقد عدوت الستين.. ولكن، لا رأي لمن لا يطاع)..!!! كانت هذه الكلمات للإمام، يدوي في سمع (الحسن) صداها.. كما كانت تلح عليه في وضع نهاية للصراع الذي حاول أبوه أن يتحاماه دون جدوى.
(٥٠)
ولكن ذلك لا يعني بحال. أنه آثر السلام وهو في (مركز ضعف).. لا، بل آثره وهو في (مركز قوة) مكين. يقول (الحسن البصري) رضي الله عنه: (استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال. فقال عمر بن العاص لمعاوية إني لأرى كتائب، لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: إذا قتل هؤلاء أولئك، فمن لي بأمور الناس. ورغم ما كان بأهل الكوفة من تفسخ وتردد، فقد كان تحت تصرف (الحسن) حين آثر السلام أربعون ألف مقاتل، يشكلون جبهة واحدة، قوية وصامدة.. تحت إمرة رجل من أعظم رجال الإسلام وقواده – ذلكم هو: ” قيس بن سعد بن عبادة “. ولقد كانوا مصممين على مواصلة الحرب ضد معاوية تصميما حمل بعضهم على مجابهة (الحسن) حين رأوه يعتزم الصلح وإقرار السلام مجابهة قاسية وعنيفة رغم حبهم له وتوقيرهم إياه. * * * هو إذن لم يؤثر السلام على ضعف ولا عن عجز. ولم تكن الظروف العسيرة التي تسلم الخلافة فيها لتجاوز قدرها في كونها مجرد (موضوع) لتفكيره في السلام.. أما (مصدر) تفكيره في السلام فكان طبيعته وخصاله. وهكذا قرر أن يعرض، بل أن يفرض السلام على معاوية.. وقولنا (يفرض) السلام، تعبير لا مبالغة فيه، فقد تغلب على ظروف كثيرة لكي يجعل السلام حقيقة ناجزة.