ولم يكد واليه عليها وقريبه في نفس الوقت – مروان بن الحكم – يعرض الأمر على المسلمين الذين احتشدوا في المسجد الكبير، حتى جابهته معارضة رهيبة. لقد وقف (عبد الرحمن بن أبي بكر) يقول لمروان: (والله، ما الخيار أردتم لأمة محمد.. ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية، كلما مات هرقل، قام هرقل…). وتلاه (الحسين) فرفض في كلمات قواطع هذا العبث بمصاير الإسلام والمسلمين.. وتلاه (عبد الله بن الزبير) فدمدم على مروان وعلى معاوية بكلمات كألسنة اللهب..!! وأبلغ أمر المعارضة إلى معاوية، فلم يحمله ذلك على إعادة النظر في قراره، بل دفعه إلى الايغال في سرعة إنجازه. فأرسل إلى ولاته الآخرين على بقية الأمصار، آمرا إياهم أن يسوقوا الوفود إلى الشام كي تبايع ليزيد.. وشهدت الشام مهزلة البيعة ومأساتها على نطاق واسع، بعد أن أدى الذهب والسيف دورهما في حمل الناس على المبايعة. ولكن موقف (المدينة) ظل يؤرقه، فقرر السفر بشخصه إليها. وهناك حاول إقناع زعماء المعارضة – عبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر. فلما أعيته الحيلة لجأ إلى القوة في مظاهرة مسلحة عجيبة..!! لكن الزعماء الثلاثة صمدوا، ولم يتحرك منهم لسان ببيعة.. وأمام مناورة الموت التي فاجأهم بها معاوية، لاذوا بالصمت، فاستغل هو صمتهم وأذاع في الناس أنهم مبايعون..!! لقد برر معاوية أخذه البيعة ليزيد بحرصه على عدم نشوب الخلاف
(٦٩)
والصراع من جديد بين المسلمين.. وإنه لتبرير يدينه أكثر مما يشفع له..!! فلماذا خشي الصراع والفتنة إذا هو لم ينقل الملك إلى يزيد.. ولم يخشهما إذا هو وسد الأمر لغير أهله وسلم قيادة الدولة المسلمة إلى أكثر العالمين بعدا عن الصلاحية لها، وهو يزيد..؟؟!! إن هذه النظرة تكشف بوضوح عن أن معاوية كان ينظر إلى الأمر على أنه – كما قلناه من قبل – سلطان بني أمية، أكثر مما هو سلطان الإسلام وسلطان المسلمين..!! ووضع المسألة على هذا النحو – وهو وضع صحيح – يجعل المقاومة أمرا محتوما وقدرا مقدورا.. ولقد بدأت المقاومة بامتناع (الحسين، وابن الزبير، وابن عمر، وابن أبي بكر) بالمدينة عن البيعة.. وبدأت بالتذمر الكالح الذي ملأ صفوف الجماهير في كل مكان.. والذي ارتفع به الصوت داخل الأمويين أنفسهم الذين كانوا يشمئزون من يزيد، ويرون بين رجالهم من هو أحق وأجدر.. كذلك شاع على ألسنة الذين بايعوا من عامة الناس مكرهين.. ذلك أن (يزيد) كان شابا عابثا لاهيا.. والتاريخ يصوره دائما بين بطانته، وهي بطانة سوء، يلهون، ويشربون، ويعربدون. وحتى حين أراد أن يضفي على سيرته بعض التصون والوقار، فأرسله إلى مكة حاجا، ولم يغنه ذلك شيئا، فقد اصطحب يزيد معه لهوه وعبثه وبطانته..!! ويزيد، قبل هذا، وبعد هذا، تنقصه كل مقومات الرجل المناسب للمكان المناسب.. فهو مفلس إفلاسا تاما من كل ما كان لأبيه من دهاء، وشخصية، وذكاء، ومقدرة..!
(٧٠)
ففيم استخلافه..؟ وبأي رشد وأي ضمير، يفرض واحد هذا شأنه على الإسلام وعلى المسلمين؟! ثم أين عهده مع (الحسن) على أن يترك الأمر بعد شورى، حيث يختار الناس من يرتضون..؟! ولكن معاوية فعلها – غفر الله لمعاوية.. وفي العام الستين للهجرة مات، لينتقل الأمر من بعده إلى يزيد… وبدأ يزيد عهده بإنفاذ الوصية التي تركها له أبوه قبيل وفاته: (إني لا أخاف عليك سوى أربعة رجال: الحسين بن علي.. وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير.. فأما الحسين بن علي، فإن أهل العراق لن يتركوه حتى يخرجوه إليهم، فإن، فعل فظفرت به فاصفح عنه… وأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، ولا يريد الخلافة إلا أن تأتيه عفوا. وأما عبد الرحمن بن أبي بكر، فليس له عند الناس ما يجعله يطمح إلى طلبها، أو يحاول التماسها إلا أن تأتيه عفوا.. وأما الذي سيجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، حتى إذا أمكنته فرصة وثب عليك، فذلك هو عبد الله بن الزبير.. فإن فعل وظفرت به فقطعه إربا إربا، إلا أن يلتمس منك صلحا.. فإن فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك بجهدك.. وكف عاديتهم بنوالك.. وتغمدهم بحلمك..). ترى، هل كان معاوية يعرف لابنه هذا جهدا، أو نوالا، أو حلما يعالج به الأمور..؟؟