الوقت- في ظل أجواء الحرب الضارية المستمرة في قطاع غزة، وبينما يحاول الاحتلال الإسرائيلي فرض معادلاته بالقوة العسكرية والتدمير الشامل، تخرج حركة حماس برؤية جديدة وواضحة ترسم ملامح المرحلة القادمة، وقف إطلاق النار ممكن، ولكن سلاح المقاومة باقٍ ولن يُطرح للتفاوض، هذه المعادلة الصلبة التي أعلنتها حماس، جاءت بعد زيارة وفدها الرفيع إلى القاهرة وإجراء مفاوضات مطولة مع المسؤولين المصريين، واضعة النقاط على الحروف بشأن شروط إنهاء العدوان على غزة وإطلاق مسار إعادة الإعمار ورفع الحصار، في إطار صفقة تبادل أسرى شاملة.
أبعاد الرؤية السياسية لحماس..تثبيت الحقوق بلا تنازل
جاءت مبادرة حماس بمثابة رد واضح على كل المحاولات الإسرائيلية والأمريكية الرامية لفرض واقع جديد في غزة، يقوم على تجريد المقاومة من سلاحها مقابل تهدئة أو تحسينات معيشية، لكن الحركة، التي خبرت دهاليز المفاوضات وعرفت مرارة الاحتلال، أعلنت بوضوح أن التهدئة طويلة الأمد ممكنة بشرطين، هما، وقف كامل ودائم لإطلاق النار وبقاء السلاح المقاوم كضمانة وحيدة لحماية الشعب الفلسطيني من العدوان، إن ما أظهرته حماس في رؤيتها الأخيرة هو نضج سياسي عالٍ، فهي لم ترفض مبدأ الهدنة أو المفاوضات، لكنها وضعت لها إطارًا وطنيًا ثابتًا، يمنع الوقوع في فخ نزع السلاح أو إضفاء شرعية على الحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 17 عامًا.
المعادلة الأمنية الجديدة.. لا أمن للكيان من دون كرامة الفلسطيني
من خلال المبادرة التي قدمتها حماس، تتبلور قواعد جديدة للصراع مع الاحتلال، قواعد تُعيد رسم ملامح المرحلة المقبلة بثبات ووضوح، لم يعد الاحتلال الصهيوني قادرًا على تحقيق أمنه عبر القوة المجردة أو البطش المفرط، فقد أثبتت التجارب الميدانية أن آلة الحرب الإسرائيلية، رغم جبروتها، فشلت في كسر إرادة الشعب الفلسطيني أو إخماد مقاومته، لم يعد بإمكان الاحتلال أن يتصور تهدئة دائمة دون الاعتراف بحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، ودون الإقرار بأن الكرامة الوطنية هي شرط أساسي للاستقرار الحقيقي.
إن سلاح المقاومة لم يعد مجرد تفصيل هامشي كما يحاول العدو تصويره، بل أصبح حجر الزاوية في المعادلة السياسية والأمنية، وعاملًا جوهريًا في حفظ التوازن ومنع تكرار المجازر والاعتداءات، إصرار حماس على بقاء السلاح ليس قرارًا تكتيكيًا مؤقتًا، بل هو استيعاب عميق لدروس الشعوب الحرة عبر التاريخ، حيث لم تعرف أي حركة تحرر النصر إلا حين تمسكت بحقها المشروع في الدفاع عن نفسها، ورفضت التفريط بسلاحها تحت أي ظرف أو ضغط، ولذلك، فإن سلاح المقاومة في غزة اليوم هو الضمانة الحقيقية لبقاء صوت الحق عاليًا، وحائط الصد الأخير أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال.
تفاصيل المبادرة..صفقة متكاملة لا تقبل التجزئة
تقدم مبادرة حماس رؤية متكاملة لا تقبل التجزئة، حيث لا تقتصر على مجرد هدنة مؤقتة، بل تشكل حزمة متكاملة تهدف إلى إنهاء العدوان بشكل دائم ووضع أسس عادلة لمرحلة ما بعد الحرب، تشمل هذه المبادرة وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وانسحابًا كاملاً لقوات الاحتلال من قطاع غزة، ورفعًا فوريًا للحصار الجائر الذي خنق القطاع لسنوات، بالإضافة إلى بدء عملية إعمار شاملة تعيد لغزة حيويتها، كما تتضمن المبادرة صفقة تبادل أسرى عادلة تفرج بموجبها عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال مقابل الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى المقاومة.
لكن الأهم في هذه الرؤية هو البعد السياسي، حيث تطالب حماس بإدارة مدنية لغزة عبر لجنة محلية مستقلة تضم كفاءات وطنية بعيدًا عن أي تدخلات احتلالية أو شروط مجحفة، هذا الطرح ليس مجرد تفاصيل تفاوضية، بل يمثل تصورًا استراتيجيًا متكاملاً يحفظ كرامة الشعب الفلسطيني ويقطع الطريق أمام أي محاولات لتصفية القضية أو تقزيم النضال الوطني.
الدلالات الاستراتيجية
الموقف الذي تبنته حماس يكشف عن تحولات عميقة في المعادلة السياسية والعسكرية، حيث تعكس المبادرة ثقة متجددة في توازن الردع الذي فرضته المقاومة رغم شراسة العدوان واختلال موازين القوة الظاهرية، لقد أدركت حماس أن المقاومة، رغم محدودية إمكانياتها، استطاعت كسر هيبة الجيش الإسرائيلي وفرض وقائع جديدة على الأرض، ما أجبر المجتمع الدولي على التعامل مع هذه الحقائق بعيدًا عن الأوهام الإسرائيلية.
هذا الموقف ليس رد فعل ظرفيًا، بل هو نتاج قراءة دقيقة لتحولات المشهد، حيث أصبح واضحًا أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على تحقيق أهدافها رغم الدمار الذي أحدثته، بينما أثبتت المقاومة مرونتها وقدرتها على الصمود وإعادة تشكيل المعادلة، المبادرة تضع العالم أمام اختبار حقيقي: إما القبول بحل عادل يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني، أو الاستمرار في حلقة مفرغة من العنف لن تنتهي إلا بانهيار المشروع الاحتلالي
لماذا تصر المقاومة على السلاح؟
إن إصرار المقاومة على الاحتفاظ بالسلاح ليس مجرد موقف سياسي أو شعار إعلامي، بل هو مسألة وجودية تتعلق بالبقاء، فالتجارب السابقة أثبتت أن أي منطقة تُجرد من وسائل دفاعها تصبح عرضة للابتزاز والقهر والعدوان المستمر، سلاح المقاومة يمثل الضمانة الأساسية لمنع تكرار المجازر وتحقيق الردع المستقبلي، كما أنه يشكل الورقة الأهم في أي معادلة تفاوضية، لأنه لا يمكن لأي طرف أن يدخل مفاوضات من موقع الضعف أو دون امتلاك أدوات القوة.
لهذا جاء موقف حماس واضحًا وحاسمًا: سلاح المقاومة ليس موضوعًا قابلاً للتفاوض، ولن تقبل أي قوة بنزعه ما دام الاحتلال الإسرائيلي قائمًا على الأرض الفلسطينية، هذا المبدأ ليس تفصيلاً ثانويًا، بل هو خط أحمر يحفظ الحقوق ويحمي الشعب من مصير مماثل لما حدث في مناطق أخرى جُردت من وسائل دفاعها فتحولت إلى ساحات للقمع والعدوان دون أي قدرة على المواجهة
الدور المصري والقطري..رعاية مشروطة
تشير تفاصيل المبادرة إلى أن مصر وقطر تلعبان دورًا مهمًا في رعاية الاتصالات وضمان تنفيذ أي اتفاق، مع ضمانات إقليمية ودولية تمنع الاحتلال من التلاعب بالاتفاقيات كما حدث في مرات سابقة، وهذا يعكس إدراك المقاومة لضرورة وجود ضامن خارجي قوي، وعدم الاكتفاء بالوعود الإسرائيلية الجوفاء.
التحديات التي تواجه المبادرة
تواجه المبادرة الفلسطينية تحديات جسيمة رغم وضوح رؤيتها وقوة حجتها، يأتي في مقدمتها تعنت الاحتلال الإسرائيلي ومحاولاته الدؤوبة لتفريغ المبادرات الجادة من مضمونها، بالإضافة إلى الانحياز الأمريكي شبه المطلق الذي يشكل عائقاً رئيسياً أمام أي مسار سلام حقيقي، كما تبرز التصدعات الداخلية الفلسطينية كعامل يهدد وحدة الموقف، حيث قد تحاول أطراف خارجية استغلال هذه الانقسامات لضرب التماسك الوطني.
لكن رغم هذه التحديات، فإن صمود المقاومة البطولي في الميدان واستمرارها في تحقيق إنجازات نوعية، يمنح المبادرة زخماً متجدداً ووزناً استراتيجياً يصعب تجاهله، هذا الصمود الذي تحول إلى قوة ضاغطة على الأرض، يجعل من المبادرة خياراً واقعياً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية قادمة
المستقبل.. ماذا بعد؟
رؤية حماس تفتح الباب أمام حلّ يحفظ كرامة الشعب الفلسطيني ويُنهي العدوان، لكنها في الوقت نفسه تُرسي معادلة ردعٍ تمنع تكرار العدوان مستقبلاً، نجاح هذه المبادرة سيشكل انتصاراً سياسياً تاريخياً يُضاف إلى الانتصارات الميدانية والمعنوية التي حققتها المقاومة، أما إذا أصرّ الاحتلال على التعنت ورفض الشروط العادلة، فإن المقاومة – وهي في أوج استعدادها – قادرة على مواصلة المعركة بثقة، إذ إن الوقائع الجديدة تؤكد أن الزمن لم يعد في مصلحة المحتل، الذي يغوص أكثر فأكثر في مستنقع غزة، ولن يجد مخرجاً منه إلا بالاعتراف الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.
المقاومة بين الثوابت الوطنية والتحديات الدولية
ما يميز الرؤية التي قدمتها حماس أنها لم تتوقف عند حدود إنهاء العدوان الحالي، بل وضعت أساسًا صلبًا لأي حل مستقبلي يقوم على حفظ الثوابت الوطنية الفلسطينية، رفض نزع السلاح، والإصرار على الانسحاب الكامل من غزة، وربط أي تهدئة طويلة الأمد بتحقيق الكرامة الوطنية وإعادة الإعمار، كلها رسائل تؤكد أن المقاومة اليوم ليست مجرد أداة ردع عسكري، بل مشروع سياسي وطني متكامل.
وفي ظل حالة الاستقطاب الدولي، تحاول المقاومة توسيع دائرة الدعم لحقوق الشعب الفلسطيني، مستفيدة من حالة الرفض الشعبي العالمي للمجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة، هذا الزخم الشعبي، وإن لم يترجم بعد إلى قرارات سياسية حاسمة، يشكل ورقة ضغط أخلاقية مهمة على الحكومات الغربية التي تواصل دعمها الأعمى لـ”إسرائيل”.
في الختام ، معركة غزة الأخيرة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل شكلت منعطفاً استراتيجياً حاسماً في مسار الصراع مع الاحتلال، لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية، رغم كل التحديات، أنها قادرة على تحطيم كل حسابات العدو العسكرية والأمنية، فبعد أشهر من القصف الوحشي والعدوان الشرس، لم تتمكن آلة الحرب الإسرائيلية من كسر إرادة الصمود أو إخضاع إرادة الشعب الفلسطيني، هذه المرحلة الفارقة تضع الاحتلال أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والانسحاب من الأرض المحتلة، أو مواجهة حتمية مع استنزاف طويل الأمد لن يكون فيه منتصراً، فالمقاومة اليوم باتت تمتلك أدوات الردع وخبرة الميدان، فيما يخسر العدو يومياً مبررات وجوده وأساطير قوته.
ما يجري في غزة اليوم يتجاوز صراعاً على الأرض أو حدوداً مؤقتة، إنه صراع وجودي بين مشروعين: مشروع احتلال بائد يعيش أزمته الوجودية، ومشروع تحرير يتجدد بقوة الصمود والتضحيات، في هذه المعادلة، تثبت التجربة أن لا أمن للاحتلال بلا عدالة، ولا سلام بلا حرية، ولا هدنة دائمة بلا مقاومة مشروعة، هذه هي معادلة المرحلة التي لا تقبل اللعب على الحواف أو المساومات الهزيلة.
إقرأ المزيد