حقوقا كثيرة أهونها كفالة الأرامل والأيتام الذين استشهد أزواجهم وآباؤهم وهم يقاتلون تحت راية الإمام..!! فمن أجل تلك الحقوق، ومن أجل شغفه بالخير والبر اشترط لنفسه ولأخيه وفرة العطاء.. وحسبنا في هذا المقام شهادة (معاوية) نفسه، فذات يوم أعد أحمال الهدايا التي كان يرسلها بين الحين والحين لصفوة الصحابة في مكة والمدينة. وبينما القافلة تتهيأ للسفر، نظر معاوية فيمن حوله وقال لهم: (إن شئتم أخبرتكم بما يصنع القوم بهذه الهدايا).. ثم راح يسمي بعض الأسماء، ويسوق الحديث عنها، حتى جاء ذكر (الحسن والحسين) فقال: (.. وأما الحسن، فلعله يدع لزوجاته بعض الطيب، ثم يترك لمن حوله كل شئ..!! وأما (الحسين) فيبدأ بأيتام الذين قتلوا مع أبيه في صفين، فإن بقي بعد ذلك شئ نحر به الجزر، وسقى به اللبن)…!! أجل.. هذه شهادة (معاوية).. وفيها فصل الخطاب!! ومن فصل الخطاب أيضا، أن العطاء الجزيل الذي فرض لهما، لم يكن يكفيهما، مع أنها لم يعرف عنهما قط عيش المترفين ولا حياة المسرفين.!! ولقد تراكم على (الحسين) دين ثقيل، وانتهز معاوية الفرصة فعرض عليه قدرا كبيرا من المال يقضي به ديونه، نظير بيعه عين ماء كانت للإمام (علي) بالمدينة، وكان الإمام قد أهداها فقراء المدينة وأهلها، يرتوون منها بغير حساب.. ورفض (الحسين) هذا العرض..
(٥٥)
ففيم إذن كانت هذه الديون رغم وفرة العطاء لقوم لا يحيون في ترف ولا في سرف..؟! إنها كانت بسبب حقوق مذخورة، وعطايا مبرورة تعودها الكرام، أبناء الكرام..!! قبل معاوية شروط الصلح من فوره، وتنازل له الحسن عن الخلافة.. وسارع معاوية إلى الكوفة ليتلقى بيعة أهل العراق. وفي الجمع الحاشد من المسلمين، دعا (الحسن) لإلقاء كلمة، فوقف (الحسن) والأبصار شاخصة إليه، والأنفاس معلقة بشفتيه اللتين لا يدري أحد عن أي نوع من القول ستنفرجان.. وجاءت كلماته في تلك المناسبة على وفاق سعيد ومجيد مع صاحبها العظيم.!! قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. وحقن دماءكم بآخرنا.. ألا إن أكيس الكيس التقى، وإن أعجز العجز الفجور.. وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه ومعاوية: إما أن يكون أحق به مني، فقد تركته له.. وإما أن أكون أحق به منه فقد تركته لله عز وجل، ولخير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائها). ثم التفت صوب معاوية وقال: (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)..!!
(٥٦)
إن العظمة الإنسانية لتكشف عن أصالتها في مثل هذه المواقف، وبمثل هذه الكلمات.. حيث يلتقي الصدق، والقوة، والترفع، والحكمة أسعد لقاء..!! ومضى كل إلى سبيله.. معاوية إلى الشام عاصمة ملكه العريض.. و (الحسن) إلى المدينة، قرير العين بما حقن من دماء، عظيم الغنم بما بذل من فداء.. مرددا كلماته المضيئة هذه: (لقد كانت جماجم العرب بيدي في العراق، تسالم من سالمت.. وتحارب من حاربت.. ثم تركتها ابتغاء وجه الله)..!! ولقد وفى بعهده مع معاوية. ووفى بالعهد معه أخوه (الحسين) الذي كان قبل إبرام الصلح من أشد معارضيه. ترى، هل سيفي معاوية.؟ أم أن إغراء السلطة المطلقة سيجشمه مشقة الوفاء..؟؟ على أية حال، فقد أدى الحسن ما اعتقده واجبا، وأعطى من ذات نفسه ما هو أهل له. لقد ترك للآخرين دنياهم، وعكف هو على الطاعة، والعبادة والخير.. * عابدا: يحب الله ويخشاه، ويخرج إلى الحج من المدينة إلى مكة أعواما كثيرة ماشيا على قدميه والنجائب تقاد بين يديه، حتى إذا سئل عن سبب هذا الإجهاد لنفسه أجاب: (إني أستحي أن ألقى ربي، ولم أمش على قدمي إلى بيته)..!!