المسرحية السياسية الجديدة: ترامب في الشرق الأوسط بطل السلام أم ممثل الدور الأقدم؟
المسرحية السياسية الجديدة: ترامب في الشرق الأوسط بطل السلام أم ممثل الدور الأقدم؟
في الشرق الأوسط، لا تمرّ أزمة دون أن يظهر على المسرح الدولي “منقذٌ جديد” يعدُ بالسلام، يعِدُ بإنهاء الحروب، ويقدّم نفسه كصاحب الحلّ الأوحد. واليوم، يعيد دونالد ترامب إحياء هذا الدور بمشهد سياسي وإعلامي ضخم، مقدّمًا نفسه للعالم كـ “رجل السلام الأول”، وصاحب الخطة التي ستُنهي حروب المنطقة. لكن، خلف هذا البريق، تقف أسئلة كثيرة: هل ما نشهده إنجازٌ فعلي أم مسرحية سياسية جديدة تُعرض على الجمهور المتعب من الحروب؟
بطل على مسرح الأزمات
منذ عودته إلى الواجهة، قدّم ترامب نفسه كقائد لا يشبه أحدًا: يتحدث عن “صفقة القرن الثانية”، ويُطلق مبادرات لوقف النار في غزّة، ويدعو إلى ترتيبات أمنية جديدة تشرف عليها قوى دولية تحت الرعاية الأميركية.
وسائل الإعلام المقرّبة منه تروي قصته كأنها فصل جديد من “السلام التاريخي”، وتصفه بأنه الزعيم الوحيد القادر على إنهاء النزاع العربي – “الإسرائيلي”.
غير أن هذا “السلام” الذي يُعرض في المؤتمرات والقمم لا يبدو أنه يعالج جذور الصراع، بقدر ما يلمّع صورة الرجل الذي يسعى إلى استعادة مجده السياسي في الداخل الأميركي، على أكتاف منطقة أنهكتها الأزمات.
خطة ترامب: بين الواقع والدعاية
يُروّج ترامب لخطة مكوّنة من عشرات النقاط تشمل وقف إطلاق النار، وإطلاق الأسرى، وإنشاء “قوة استقرار دولية” لإدارة غزّة، بمشاركة مصر وقطر ودول أخرى.
لكن على الأرض، تبدو الأمور أكثر تعقيدًا: فالفصائل الفلسطينية منقسمة، والموقف “الإسرائيلي” متصلّب، والدول العربية لا تزال متردّدة بين المشاركة والرفض.
بكلمات أخرى، الخطة لا تزال أقرب إلى العرض السياسي منها إلى مشروع سلام حقيقي، وهو ما يجعل كثيرين يرونها جزءًا من حملة تمهيدية لعودة ترامب إلى الواجهة الدولية أكثر مما هي مبادرة لإنهاء نزاعٍ مزمن.
تاريخ يتكرّر
ما يفعله ترامب ليس جديدًا في المسرح السياسي.
منذ القرن الماضي، اعتاد الشرق الأوسط أن يكون خشبةً تُعرض عليها مشاهد “المنقذين” من الخارج:
الرئيس الأميركي وودرو ويلسون قدّم بعد الحرب العالمية الأولى “خطة السلام الدائم”، لكنّها مهّدت لاستعمارٍ جديد.
دوايت آيزنهاور أطلق مبدأه في الخمسينيات لإنقاذ المنطقة من الفوضى، فحوّلها إلى ساحة صراع بين واشنطن وموسكو.
جيمي كارتر حمل لقب “رجل السلام” بعد كامب ديفيد، لكن الصراع الفلسطيني بقي دون حل.
جورج بوش الابن غزا العراق باسم الحرية والديمقراطية، فزرع الفوضى التي ما زالت مستمرة.
واليوم يعود ترامب بالخطاب نفسه: “أنا من سيُنهي الحرب”.
كل هؤلاء قدموا أنفسهم كمنقذين، لكن الشرق الأوسط لم يعرف السلام بعد.
الإعلام يصنع الأسطورة
لا يمكن تجاهل الدور الهائل للإعلام في تكوين صورة “البطل”.
الصور المنتقاة، والعناوين العاطفية، والمؤتمرات المتلفزة تُظهر ترامب محاطًا بالقادة العرب، مبتسمًا، متحدثًا عن الأمل.
لكن الكاميرا، كما جرت العادة، لا تُظهر ما وراء العدسات: جثث الأطفال في المخيمات، انهيار البنية التحتية، أو صرخات المدنيين الذين لا يعرفون إن كان هذا السلام سيصل إليهم فعلًا.
إنها أسطورة تُصنع بالضوء: تُخفي الدماء، وتُلمّع الخطابات.
المصلحة قبل المبادئ
وما يُروّج له ترامب اليوم لا يختلف كثيرًا: فالأولوية تبقى لأمن “إسرائيل”، وتأمين المصالح الأميركية في الطاقة والممرات، وكبح نفوذ خصوم واشنطن في المنطقة.
الشرق الأوسط في نظر السياسة الأميركية ليس ساحة خلاص، بل ساحة نفوذ، وأي “سلام” لا يغيّر هذه المعادلة سيبقى هشًا، مؤقتًا، وقابلًا للانفجار من جديد.
ما وراء السلام: إعادة تأهيل “إسرائيل” وتصفية الحسابات الكبرى
في العمق، لا يسعى ترامب إلى إحلال سلام شامل بقدر ما يعمل على إراحة “إسرائيل” بعد حربٍ أنهكتها على مدى عامين، رغم كلّ الدعم الأميركي والأوروبي والغربي.
فالمجتمع “الإسرائيلي” يعيش حالة إنهاك داخلي، اقتصاديًا ونفسيًا وعسكريًا، والجيش يواجه استنزافًا متواصلًا، فيما بدأت صورة “إسرائيل” تتهاوى عالميًا، خصوصًا في أوروبا، حيث نزل عشرات الآلاف إلى الشوارع رفضًا لمجازرها في غزّة، وتحولت من “دولة ديمقراطية” إلى رمز للوحشية والعنصرية في نظر الرأي العام الأوروبي.
لذلك، يسعى ترامب إلى تلميع صورتها عبر مبادرات سلام تبدو إنسانية، لكنّها في جوهرها محاولة لتبييض سجلّ الاحتلال، وإعادة إدماج “إسرائيل” في المشهد الدولي كشريك “حضاري” في مشاريع التسوية.
في المقابل، يعتبر ترامب أن حركة حماس أنهكت، وأن الوقت بات مناسبًا لفرض شروطه بدعمٍ من أنظمة عربية وخليجية أظهرت خضوعًا سياسيًا غير مسبوق لإرادته.
بهذا المعنى، يستخدم ترامب “السلام” كأداة ضغط لإعادة تشكيل موازين القوى في غزّة، لا لإنهاء الصراع فعلًا، بل لتحجيم المقاومة وضمان تفوّق “إسرائيل” السياسي والعسكري.
وعلى مستوى أوسع، لم يعد الشرق الأوسط يحتلّ موقع الأولوية في الإستراتيجية الأميركية كما كان سابقًا.
فترامب يوجّه بوصلته نحو الجبهة الروسية، ساعيًا لتخفيف انشغال واشنطن في المنطقة استعدادًا لمواجهة كبرى تلوح مع الصين، مع استمرار محاولاته لإخضاع إيران وتقليم نفوذها الإقليمي.
بعبارة أخرى، “السلام” الذي يروّج له اليوم ليس نهاية الحرب، بل استراحة تكتيكية لإعادة ترتيب المعارك القادمة.
في النهاية يمكن القول إن ترامب لا يقدّم مشهدًا جديدًا، بل إعادة عرض لمسرحيةٍ قديمة؛ تتبدّل وجوه الممثلين، ويبقى النص ذاته: رجلٌ من الغرب يأتي بخطة خلاص، يملأ الشاشات ضجيجًا، ثمّ يغادر تاركًا المنطقة كما كانت وربما أكثر اضطرابًا.
الشرق الأوسط لا يحتاج إلى منقذ خارجي، بل إلى وعي داخلي يعيد تعريف السلام من منظور العدالة لا الصفقات.
أما ترامب، فهو ليس بطلًا تاريخيًا كما يُقدَّم، بل مؤدٍّ بارع لدورٍ كُتب منذ زمن بعيد على خشبة لا تزال تشتعل تحتها النيران