حدّد حزب الله مجموعة من الثوابت والمواقف الأساسية في الكتاب المفتوح الذي وجّهه إلى كلّ من رؤساء الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، كونهم رأس السلطة في الدولة اللبنانية وهم المسؤولون عن تظهير القرار الرسمي وترجمته في القضايا الملحّة التي تحمي الشعب وتحفظ له كرامته، وتواجه المخاطر التي تدهم البلد وتهدّد كيانه وديمومته، وخاطب “أبناء شعبنا الأبي في لبنان” كونه حجر الرحى في المنعطفات التي تستلزم وقوفه سدًّا منيعًا أمام مؤامرات الخارج والداخل الساعية إلى إسقاط لبنان وضرب استقراره واستباحة سيادته.
أعاد كتاب حزب الله المفتوح -القابل لمواقف جديدة حين يتطلّب الأمر ذلك- التأكيد على جملة من المحدّدات الإستراتيجية التي تعكس رؤيته التي تعدّ “السبيل المجدي لحفظ مصالح لبنان في هذه المرحلة التي تمر فيها منطقتنا والعالم”، وتحكم سياسته وأداءه إزاء التعامل مع التحدّيات الراهنة، والتي توالت وتراكمت بشكل سريع ودارماتيكي خلال العامين الماضيين، وفي مقدمتها مواجهة الاجتياحات العسكرية والأمنية والسياسية الأميركية و”الإسرائيلية” الرامية إلى محو لبنان عن خارطة الدول الفاعلة في المنطقة، وتحويله إلى كيان تابع مفتقد للسيادة والقرار الحر المستقل، وذلك حرصًا منه على التفاهم الوطني وحماية السيادة وحفظ الأمن والاستقرار في لبنان، وإسهامًا منه في تقوية ودعم الموقف اللبناني الموحّد ضدّ العدوان الصهيوني وانتهاكاته وخرقه المتواصل لإعلان وقف إطلاق النار. ومن أهم هذه المحدّدات:
أولًا: في التوقيت – جاء توقيت إصدار الكتاب المفتوح في وقت ضجّت الساحة المحلية بتصريحات وتحليلات على مدى الشهور الثلاثة الأخيرة، رسمت مشاهد تهويلية من خطوات تصعيدية للعدو بحق لبنان، ومنها ما ذهب إلى سيناريوهات تدميرية ستلحق بالضاحية وبعلبك والهرمل على غرار ما جرى في قطاع غزّة وحملت تهديدات بضرب المرافق الرسمية اللبنانية، واستغلّت الأبواق “الإسرائيلية” في الداخل هذا الأمر لتأليب الرأي العام على حزب الله وتحميله مسؤولية ما قد يحصل من دمار على لبنان، فجاء الكتاب ليضع الأمور في نصابها الصحيح، ويؤكد أن المقاومة باقية على التزامها وقف إطلاق النار وأن العدوّ هو الذي يمارس إرهابه بحق لبنان واللبنانيين، وأنّها في الوقت نفسه ملتزمة بحماية أهلها وشعبها إلى جانب الجيش اللبناني، وهي كانت وستبقى صمام الأمان للبلد وما تزال تملك القدرة على المواجهة.
وفي هذا السياق، لفت مراقبون إلى البيان الاستلحاقي للعدو عقب استهداف عدد من قرى الجنوب (طيردبا، عيتا الجبل، الطيبة وكفردونين)، والذي أكّد على أن “إسرائيل غير معنية بالتصعيد”، وهو خطاب تطميني موجّه للمستوطنين بالدرجة الأولى، وهم الذين كانوا لا يزالون يستشعرون الخطر اليومي والمستمر ميدانيًا، وكذلك من خلال مواقف مسؤولي العدوّ من أن أي جولة حربية جديدة مع حزب الله ستعيد المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة إلى جحيم القتل والتهجير والدمار، وهذا يشير بوضوح إلى أن البيانات التصعيدية “الإسرائيلية” باستهداف المناطق على اتّساع جغرافية لبنان ما هي إلا ضغط بالنار يهدف لدفع لبنان إلى طاولة المفاوضات من موقع المهزوم وبدون أوراق قوة.
ثانيًا: في الثوابت – صحّح بوصلة الاجتهادات التي حاول إعلام العدوّ وأبواقه اللبنانية حرفها عن الاتّجاه الصحيح، فكرّر التذكير بأهم بنود إعلان وقف إطلاق النار الذي “شكّل آلية تنفيذية للقرار الدولي رقم 1701″، والتي حدّدت منطقة جنوب نهر الليطاني حصرًا لإخلائها من السلاح والمسلحين، وقضت بأن “ينسحب العدوّ “الإسرائيلي” إلى ما وراء الخط الأزرق المعلوم”.
– أكد، تبعًا للوقائع، التزام لبنان وحزب الله بشكل صارم وحتّى اليوم بوقف إطلاق النار، بخلاف العدوّ الذي أمعن وما يزال في خروقاته وانتهاكاته برًا وبحرًا وجوًا، مسقطًا بذلك التزامه بعدم القيام بأي “عمليات عسكرية هجومية ضدّ الأراضي اللبنانية، بما في ذلك الأهداف المدنية أو العسكرية أو غيرها من الأهداف التابعة للدولة”.
– حمّل الحكومة المسؤولية لجهة استغلال العدوّ القرار المتسرّع والخطيئة الكبرى التي ارتكبتها في الالتزام بحصرية السلاح، بما فُسّر على أنه اتّجاه لبناني رسمي حكومي لنزع سلاح المقاومة، ليس فقط في منطقة جنوب الليطاني، بل دفع بمناوراته السياسية المدعومة بالضغوطات الأميركية والدولية لنزع سلاح المقاومة في لبنان كلّه، محاولًا فرض هذا الأمر شرطًا لوقف اعتداءاته خلافًا لما تضمنه إعلان وقف إطلاق النار.
ثالثًا: في الدلالات – إن الحديث عن جولات تفاوضية جديدة “تخدم فقط أهداف ومصالح العدو الصهيوني وقوى التسلّط المعادية للحق والعدل”، ولذا فقد حذّر حزب الله من مغبّة “التورّط والانزلاق إلى فخاخ تفاوضية” لن تؤدي إلا لمزيد من تحقيق المكتسبات لمصلحة العدو “الإسرائيلي”، ودعا الرؤساء الثلاثة إلى العمل على قطع الطريق أمام محاولات جرّ الدولة اللبنانية إلى اتفاق إذعان، فهذا الكيان العدواني لا يحترم مواثيق وأعرافًا وقرارات دولية أو غير دولية، ويحتمي بالمظلة الأميركية التي توفّر له الحماية والدعم للمضي بحروبه الإجرامية سواء في لبنان وقطاع غزّة أو في المنطقة برمّتها.
– نبّه إلى مساعي العدوّ لابتزاز لبنان ووضع الشروط التي من شأنها إضعاف لبنان وضرب تماسكه الداخلي وتوهين موقعه السيادي، و”استدراجه إلى اتفاق سياسي ينتزع فيه إقرارًا لبنانيًا بمصالح العدوّ في بلدنا والمنطقة”، والتلطّي خلف هذه المطالب وعلى رأسها احتفاظ المقاومة بسلاحها وإعادة ترميم قدراتها الدفاعية، لتسويغ اعتداءاته والاستمرار في مساره العدواني “لإخضاع لبنان وإذلال دولته وشعبه وجيشه، وهو أمر لا يقبله وطني شريف متمسك بحريته وأرضه واستقلاله”.
رابعًا: في القرارات – التأكيد أن العدوّ “الإسرائيلي” لا يستهدف حزب الله وحده وإنما يستهدف لبنان بكلّ مكوّناته.. وهو ما يتطلب وقفة وطنية موحّدة وعزيزة تفرض احترام بلدنا وشعبنا وتحمي سيادة لبنان وكرامته.
– التشديد على ضرورة التوافق الداخلي على “إستراتيجية شاملة للأمن والدفاع وحماية السيادة الوطنية”، وأن حصرية السلاح ليس موضوعًا قابلًا للبحث “استجابة لطلب أجنبي أو ابتزاز “إسرائيلي” وإنما يناقش في إطار وطني”.
– التأكيد على رفض المواقع العليا والمؤسسات الرسمية المعنية لسياسة الابتزاز “الإسرائيلي” المعتمدة على أسلوب التهديد والنار لإخضاع لبنان وشعبه واستدراجه ضعيفًا إلى طاولة المفاوضات، “فذلك ما لا مصلحة وطنية فيه وينطوي على مخاطر وجودية تهدّد الكيان اللبناني وسيادته”؛ والاتّجاه الأكثر إلحاحًا اليوم الضغط على العدوّ للالتزام بوقف إطلاق النار ووقف اعتداءاته على لبنان وشعبه.
– التأكيد على حق المقاومة في الدفاع عن لبنان ومواجهة الاحتلال وردع العدوان، والذي كفلته الشرائع والمواثيق الوطنية والدولية، و”الوقوف إلى جانب جيشنا وشعبنا لحماية سيادة بلدنا”، وهذا الهدف السامي لا يتحقّق إلا بإحراز وحدة وطنية يتكامل فيها الشعب والجيش والمقاومة ومؤسسات الدولة المختلفة فضلًا عن القرار الحكومي المنطلق من الإحساس الوطني بضرورة وقف الانتهاكات الصهيونية ودفع المخاطر الأمنية والوجودية عن لبنان.
أراد حزب الله في كتابه المفتوح أن يضع النقاط على الحروف في ما يتعلّق بمسؤولية كلّ طرف في لبنان إزاء ما يتهدّد البلد من مخاطر وجودية والتنبيه من خطورة الاستهتار والتغاضي عمّا يحاك له من مخطّطات تستهدف وجوده وكيانه سواء تحت عنوان حصرية السلاح أو تحت عنوان مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، وأوضح لكل من يعنيه الأمر أن المقاومة إلى جانب الجيش اللبناني ووحدة القرار الوطني تعد من أهم عناصر القوّة التي يمكن للدولة البناء عليها في صياغة موقفها السيادي بدل اللجوء إلى المعالجات الدبلوماسية التي لا طائل منها أمام التعنّت “الإسرائيلي” المستند إلى الدعم الأميركي.